( كنت فتى صغيراً أبحث عن الطيور لألتقطها ، إلا أن طائراً ما سجنني في قفص ذكرياته طوال عمري ..)
لم يكن حر آب يعني لي الكثير ، أنا ابن العشر سنوات الحالم بأشياء لم ترها عيناي ، الباحث عن شيء لا أعرفه .. و لم تضكرني شمسه الحارقة إلى الجلوس قابعاً في المنزل منتظراً أن يلقي العصر ببروده على أعتاب قريتنا ، فكنت منذ الصباح و حتى المساء أسرح في الحقول لأضع مصيدة لعصفور ما ، و قضيبا من الدبق لآخر ..
لكن شمس نهار الثلاثاء في الثاني عشر من آب رسمت أمامي و أنا أمشي في قادوميات القرية ، ظلي متعباً ، و كأنه مل من السير وحيداً كظل يعاتب ظله .. و كانت الطيور التي ألا حقها و أأتمنها على سري سرعان ما تطير في الفضاء لتجعل لنفسها سماءً و حدوداً و دنيا متجددة ، بعيداً عن قضبان القفص الذهبي اللامع على شرفة منزلنا ..
و أعيد بهمس في سري : " أريد عصفوراً لم ير مثله أحد من أصدقائي في القرية ، أتباهى به أمامهم و يملأ بوجوده وحشة الصمت القابع على شرفتي " ، و أسرع خطاي ، أركض تارة ، و أتهادى طوراً ، و الهمس في سري يزيد ..
الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً ، و الطريق تسير بي نحو الوادي ، و أنا غير آبه إلى أين أصل ، غير أن عيني تلاحقان العصافير بين خيوط الشمس القوية التي تمنعتي من الرؤية بوضوح .. و بينما قدماي تشقان دربي ، بين الشوك حيناَ و العشب الطري أحياناً ، امتدت يد قوية و جذبتني نحوها بسرعه أفقدتني توازني ، و جعلتني لوهلة غارقاً في عالم مخيف من الأفكار المتضاربة قبل أن أفهم ما الذي جرى .. ! و وجدت نفسي في مغارة صغيرة بالكاد تتسع لشخص واحد ..
كان مدججاً بالسلاح ، و وجهه المموه بلون ثيابه الخضراء ألقى في نفسي خوفاً كبيراً ..
نظرت بوجل إلى عينيه اللتين لم أعرف لبريقهما أفقاً ، و هدأ من روعي صوته العذب الذي تردد صداه في فؤادي ، فسكن سكون العصفور بدفء جناحي أمه ، و تحولت قبضته القاسية التي يمسك بها يدي إلى لمسة حنو اطمأنت إليها نفسي .. و قد لفت ناظري خاتمه ذو الثلاثة الوان يلمع في إصبع يده التي تمسكني ، ثم ما لبث أن أفلتني ، و قد جلس على الأرض و هو يبتسم ، قائلاً لي بصوت نغمته الاستغراب :
- ماذا تفعل هنا في الوادي أيها الفتى ؟!
خبأت خوفي في نظرة حادة ، و أجبته :
- أبحث عن طائر أتباهى به أمام أترابي ..
- هنا ، في هذا المكان الذي يعرض حياتك للخطر ؟!
- لم أكن أقيس المسافات ، بل كنت فقط أبحث ..
- ما اسمك ؟
- بلال ، و أنت ؟
- " غـريـب " ..
اقتربت منه ، لأجلس بقربه ، فرأيت كتاب دعاء صغير مع مصحف إلى جانبه ، سألته بفضول :
- ماذا تفعل هنا يا " غـريـب " ؟
ضحك ضحكة طويلة جعلتني أشعر بأني مغفل جداً لأسأل مثل هذا السؤال ، و أجابني :
- أصطاد الغربان ..
- الغربان ؟!
و امتد اصبعه باتجاه موقع اسرائيلي مدشم :
- هناك تطير الغربان ، و مع الفجر يأتي طائر الضوء ليقتل ظلامهم ، و لينشر نوره على الأرض ..
- طائر الضوء !
- أجل ، طائر الضوء الذي يأتي دائماً مع الفجر ..
- و هل يبقى طويلاً طائر الضوء ذاك ؟
- لا و لكنك تستطيع أن تشعر به ، أن تحس بضيائه يملأ قلبك ، و عند الفجر ، إذا أغمضت عينيك فإنك ترى مقلتيه تشعان بنور النصر ..
- أنا ، فقط ، كنت أبحث عن طير للقفص الخالي ؟!
- بلال ، أيها الفتى الصغير ، ثمة ماهو أجدى من أن تضيع وقتك بالبحث عن الطيور تحبسها في القفص ، و فراغ القفص لن يملأه طير فقد حريته و حقه في التحليق في السماء ، دع الطيور تعيش حريتها كما أنت الآن حراً ، و ابحث عن شيء آخر ، شيء تبصر من خلاله ذاتك .. و الآن عليك أن تعود إلى البيت ..
- و أنت يا " غـريـب " ؟
- أنا أيضاً سأرحل ..
- ألن أراك مرة أخرى ؟
- بلى ، غداً عند الساعة الثالثة من بعد الظهر ، هنا في هذا المكان .. إن شاء الله ..
- و هل انتظر طائر الضوء عند الفجر ..
- أجل يا بلال ، دائماً عند الفجر ..
مددت يدي الصغير و سلمت عليه ، فأحسست على الرغم من خشونة يده برقة غريبة ، و نظرت إلى عينيه بوجدت نفسي تائهاً في غموضهما .. أدرت ظهري و هممت بالمسير فناداني : " بلال " .. استدرت متسائلاً عن سبب مناداته لي ، فوجدته يحمل عصبة صفراء كتب عليها " يا قدس إننا قادمون " ، و طلب إلي أن ألفها على جبهته ، فأمسكت أطرافها و اقتربت من رأسه ، عصبته بها ، و ارتاحت شفتاي عند موطئ السجود ، و نظرت إلى عينيه استودعهما .. " غداً ، بإذن الله ، نلتقي يا " غـريـب " .
مر النهار بطيئاً ، و حين أسدل الليل ستائره ، وقفت على شباك بيتنا الذي يظهر منه الموقع الإسرائيلي الذي أشار إليه " غـريـب " في النهار ، وكأني تخيلت الليل شرباً من الغربان التي حدثني عنها .. " يا له من ليل بهيم ! "
حدثتُ نفسي و نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط فوجدتها تشير إلى الثامنة ، وضعت رأسي المتعب على وسادتي ، و رحت أرسم بذكرياتي وجه " غـريـب " المموه ، و أتذكر بريق عينيه ، و عصبة رأسه و يده و خاتمه و كتاب دعائه ..
استيقظت في الساعة الخامسة فجراً مذعوراً على صوت قنابل و تفجير و رصاص .. ركضت إلى الشباك ألقي نظرة إلى الخارج ، فرأيت الموقع قد تصاعدت منه ألسنة النار ، و كانت الدنيا بين سواد و بياض .. إنه الفجر .. أغمضت عيني و أنا أنظر إلى الموقع ، فشعرت بنور يملأ قلبي ، ، نور قادني إلى عيني " غـريـب " ، و لمسحت يداً حمراء تحمل بين أصابعها شيئاً يشبه حلمي .. دماء ترسم لي غدي ..
" إنه طائر الضوء ! " همست في سري ..
و اتاني صوت أمي ينهرني " ابتعد عن الشباك يا بلال و تعال لنختبئ " ، و لكني بقيت واقفاً أراقب الموقع و أشعر بلهيب النار يتصاعد في قلبي ، و لم أدر حينها لماذا تمنيت أن يموت الفجر على أكف الليل ..
كانت الشمس باهتة جداً ، و النهار يملأ فراغه بساعات الضجر ، و قلبي يسابق قدمي اللتين تسيران بوهن نحو الوادي .. وصلت إلى المغارة الصغيرة فلم اجد احداً على الرغم من أن الساعة كانت الثالثة تماماً ، جلست على أرضها فوجدت خاتم " غـريـب " ذا الاوان الثلاثة .. حضنته بكفي و رسمت حدوده بأنفاسي ، و انتظرت طائر الضوء الذي يفرد نوره في عيني " غـريـب " .. انتظرت
.. لكن " غـريـب " لم يأتِ .. و ما إن هممت بالخروج من المغارة ، حتى لمحت عيناي شيئاً على الأرض ، اقتربت ..
كانت ثَمَّة دماء على التراب ..